للكاتب: علي هاشم

لمن يغيب عنها ردحًا، تبدو طهران وكأنها دخلت آلة الزمن، مدينة تضج بمشاريع جديدة، مبادرات فردية أو تتبع لشركات، تحاكي لغة العصر، ومجمعات تجارية ضخمة يصعب تميزها عن مثيلاتها في الدول المجاورة. لكنّه تغيير تدريجي وليس بسحر ساحر، ويمكن لمن يتردّد عليها ملاحظته كمن يلاحظ شفاء الوجه من ندباته مع الوقت.

النخبة الحاكمة لها حصة في هذا، ورجال الأعمال وكبار التجار، وبطبيعة الحال، المواطن العادي الذي احترف على مدى الأعوام الماضية تلبية احتياجاته من خلال تطبيقات هاتفية متنوعة، تسمح له بطلب سيارة أجرة وبيع أغراضه اليومية وشراءها، أو حجز موعد مع الطبيب عن بعد، وحتى تسليم القمامة لشركات تدفع له مالًا مقابل كل كيلوغرام من النفايات الصلبة المفروزة في منزله.

أعياد الميلاد تبدو اليوم مختلفة هناك أيضاً. في غير مقهى ومطعم، تصدح على نحو متكرر أغنية “عيد ميلاد سعيد سيدنا” المهداة من فنانين مغاربة للملك محمد السادس، ويرقص على أنغامها المحتفلون الإيرانيون بينما يطفئ صاحب/ة العيد الشموع. المشهد سوريالي، يوضح سطوة المحتوى الافتراضي على يوميات فئة واسعة من شباب طهران. فرغم الحجب النسبي لشبكات التواصل الاجتماعي، لكنها تتوفر من خلال تطبيقات ال VPN، التي تزيل الحجب وتسمح للإيرانيين بالدخول إلى فايسبوك وتويتر ويوتيوب وتلغرام وانستغرام من دون بذل جهد إلكتروني استثنائي. وهكذا، بات كثر يصنفون تطبيقات إزالة الحجب بحسب فعاليتها نهارا وليلا، كي يبقى تواصلهم مع العالم مفتوحا.

ولأن إيران دولة تعيش على الثنائيات المتناقضة والمكملة لبعضها في آن، بات مألوفا لدرجة الاعتياد، رؤية سيدات يتخففن من الحجاب في الأماكن العامة كالمطاعم والمراكز التجارية والشوارع، وهو ما يمنعه القانون، وهو ما كانت السلطات حتى سنوات قليلة ماضية تتشدد في فرضه ومعاقبة من يخالفونه. التخفف من الحجاب جزء من الصورة المتبدّلة في طهران، ولذلك فإنّه لم يحدث فجأة، بل تدرّج من تغطية الرأس كاملا، إلى تغطية نصف الرأس، حتى استقر لدى فئة من النساء إلى وشاح ينسدل على العنق والمنكبين، بلا حرج، وبكثير من التحدي المتعدد الوجوه.

هذا التحدي ليس طارئًا على الشخصية الإيرانية. هو موروث ايراني، وحلقة تبدأ من المجتمع الذي يتمرد ليدفع النظام للقبول بالمزيد من التنازلات، بحكم الأمر الواقع، مستغلا الظروف السياسية والاقتصادية. لكن الحلقة لا تتوقف هنا، فالدولة بدورها تمارس التحدي نفسه مع خصومها الخارجيين. تتمرد في المساحة الدولية لتحصد المكتسبات بحكم الأمر الواقع الاقليمي والدولي. وأمام كل خطوة تتحقق لها، تصنع سببا جديدا لتوسيع رقعة تأثيرها على الخريطة، وهكذا مثلا، قفز البرنامج النووي في عقدين من الزمن، من نحو مئة جهاز طرد مركزي وتخصيب محدود بإمكانيات متواضعة، إلى منظومة تحوي آلاف أجهزة الطرد وتستطيع التخصيب عمليا حتى 60 في المئة، وتهدد بزيادة المستوى الى 90% في حال فشل الاتفاق، أي تهدد بالمزيد من التحدي.

يعيدنا الاتفاق مجددا إلى الشارع، إلى البيوت الصغيرة والكبيرة المرصوفة فوق مليون وسبعمئة ألف كيلومتر مربع. يعيدنا من فيينا، إلى المدخرات التي حولتها بورصة الدولار إلى أثر بعد عين، إلى الموائد التي تلاشت أصناف الطعام فيها، إلى الأحلام والطموحات التي قمعتها العقوبات القاسية والتحولات السياسية المفروضة. يصيح الديك بالنسبة لهم بسعر الصرف، يبتسمون إذا تراجع الدولار أمام التومان، ويكيلون اللعنات إذا عادت قيمة العملة الأميركية للصعود. العامل الرئيس في هذا المشهد المتوتر دائما، هو المسار التفاوضي بين إيران من جهة وأميركا بواسطة الأوروبيين والصين وروسيا من جهة ثانية، وبطبيعة الحال الوسطاء الإقليميين الذين يبدو وكأن دورهم بدأ يتقدم على مسار فيينا.

ما يريده علي رضا وفرهاد ونفيسة وفاطمة وسارة ومحسن وأمير وكسرى وافسانه، وهذه لعمري اسماء إيرانيين عاديين سيقابلهم أحدنا أينما جال في طهران، ما يريدونه اليوم، استعادة دور بلادهم في الأسواق العالمية واستئناف التحويلات المصرفية واسترداد الاموال المحتجزة. لذا فالسؤال الأول الذي يواجه الصحفي في الميدان الإيراني: هل هناك اتفاق ومتى؟

سؤال الاتفاق يبقى بلا جواب حقيقي. حتى السائل يدرك تماما أن المشكلة حاليا ليست في موقع الكرة من الملعب، هل هي لدى طهران أم واشنطن، بل إن المعضلة الحقيقية في أي ملعب يجري اللعب؟ وهل من كرة أساسا في الملعب؟ بل يذهب البعض أبعد من ذلك، هل هي لعبة كرة أم ملاكمة أو انها في الواقع مباراة شطرنج طويلة لا ضير فيها في خسارة بعض البيادق طالما أن الثمن في النهاية يستحق المشقة.

وفي انتظار الاتفاق لا تتوقف الحياة. سنوات الضغوط القصوى والحظر على تصدير النفط دفع الدولة من أعلى الهرم، وتحديدا القائد الأعلى، للدفع نحو إيجاد تغيير في بنية الاقتصاد. التصريحات المتكررة الداعية للاهتمام بالصناعات غير النفطية، ترجمت عمليا في أرقام الصادرات من هذه النوعية بنسبة أربعين في المئة بحسب وزارة الصناعة والتجارة، لتتخطى قيمتها 43 مليار دولار العام الفائت. اللافت هنا أن السوق الرئيسي لهذه الصناعات هو السوق الداخلي، حيث أكثر من 85 مليون إيراني يتلهفون لكل ما يمكن استهلاكه من طعام ولباس والكترونيات وسيارات وجلديات وأدوات تجميل. اللافت، أيضا، لمن اختبر الصناعات الايرانية سابقا، هو أنها باتت أفضل على مستوى الجودة وطريقة التغليف، وساهم في ذلك التعاون المباشر وغير المباشر على السواء بين قطاعي الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصاعد بقوة، من خلال تطبيقات ومبادرات تهدف لإيصال المنتج الايراني إلى الخارج بطرق متنوعة. هذا القطاع الذي تموله تحالفات بين تجار تقليديين وشبان يحملون افكارا تحديثية بات يحجز لوحده نحو سبعة في المئة من الناتج الإجمالي للاقتصاد الإيراني بينما نسبة التجارة الإلكترونية إلى مجمل الناتج القومي ما نسبته 25 بالمئة. يساهم في ذلك ازدياد نسبة مستخدمي الجوال إلى حوالي سبعين في المئة من مجمل السكان، ووصول الإنترنت إلى 84% منهم، والأرقام كلها بحسب تقرير صندوق الأمم المتحدة للتنمية.

وكما قطاع الصناعة فإن قطاع صناعة التكنلوجيا يأمل بدوره في رفع العقوبات ليتمكن من جذب الاستثمارات الخارجية بالدرجة الأولى، وتوسيع نشاطهم إلى الدول المجاورة. لكنه من المفيد الإشارة أيضا إلى أن هذا القطاع كما القطاع الصناعي أيضا، ساعدته العقوبات في النمو سريعا بعيدا عن منافسة التطبيقات العالمية، بالتالي طور المبرمجون المحليون حلولا مصممة للمستهلك الإيراني، وحجزوا مساحتهم في السوق، بل وكانت لديهم رفاهية الخطأ والتصحيح للوصول إلى المنتج النهائي دون الخشية من المغامرة.

يعيدنا هذا مجددا إلى الاتفاق النووي، وحالة الانتظار التي تسيطر على الجميع بانتظار معادلة سحرية تكسر المراوحة الممتدة من أواخر شباط/ فبراير حتى اليوم، وتحديدا منذ اشتعال الحرب الروسية على أوكرانيا تزامنا مع الأسبوع الأخير من مفاوضات فيينا. في تلك الجولة اختتمت الترتيبات التقنية لإعادة الحياة للاتفاق، فيما تبقت المعضلة الأخيرة المتمثلة بطلب إيران من أميركا ازالة الحرس الثوري عن لوائح الإرهاب الأميركية، ورفع العقوبات عنه، وهو ما لا تبدو أميركا في وارده، على الأقل حاليا. المشكلة في أن هذا الأمر له تبعات اقتصادية ضخمة، ولا سيما أن للحرس امبراطورية مالية متغلغلة في قطاعات مختلفة، ما يعني أن العقوبات ستعود لتفرض على مؤسسات وشركات إيرانية وعالمية بمجرد احتكاكها الاقتصادي بأي من المصالح التي هناك لا يوجد أدنى شك أميركي في ارتباطها بالقوة الثورية. يكثر الحديث حول سبل تفادي هذا الأمر، وتجهد لجسر الهوة دول إقليمية عدة ترى مصلحة في انهاء حالة التوتر لصالح عقد اقتصادي جديد على امتداد الخليج، يفسح المجال لمرحلة يمكن فيها أن تتقاطع المصالح وتغمد السيوف.

بين مبادرة عمانية، وأخرى قطرية، وثالثة عراقية، يخشى البعض في طهران من المبالغة في رفع السقف. هؤلاء يعتقدون أن هناك مستوى من التنازلات يمكن أن تقبل به إيران كما أميركا، وبالتالي يجب أن تكون الحسابات منطقية على قاعدة لا إفراط ولا تفريط. في المقابل يتحدث مصدر أميركي مطلع على سير المفاوضات عن فكرة للحل، تقوم على إبقاء العقوبات على الحرس الثوري وحصر تأثيراتها على الشركات الأميركية دون غيرها، وهذا ما يمكن أن يساهم في محاصرة تداعيات المشكلة وتأثيراتها السلبية. الأميركيون في هذا الإطار يحتجون بأن قضية الحرس الثوري ليست جزءا من الاتفاق النووي، وطرحها على الطاولة عقّد كل شيء، إلى درجة أصبح الاتفاق مربوطا تماما بهذه القضية. والمشكلة هنا أن الأميركيين والإيرانيين لا يملكان رفاهية صفقة التخلي عن الاتفاق، أو القبول بالتنازل عن موقفهم المبدئي من قضية الحرس، سلبا وإيجابا.

الواقع أن حكومتي واشنطن وطهران ورثتا معا من الرئيس السابق دونالد ترامب تعويذة مسمومة، لا يمكن ابطال فعلها بشكل مباشر، لأنها ستصيب كل من يقترب منها باللعنة. فبايدن مثلا، لا يملك الكثير ليقدمه، وهو مكبل بشكل كبير بألغام داخلية وخارجية. في الداخل حيث المعارضة ضمن الإدارة، وحزبه، والكونغرس، وطبعا الحزب الجمهوري الذي يستعد للانقضاض على الانتخابات النصفية القادمة، والخارج حيث إسرائيل والحلفاء في الشرق الأوسط، وما ترسله خطوة إزالة الحرس من رسائل سلبية لهم إلى جانب ردود الأفعال التي يمكن أن تؤثر على الداخل بشكل كبير.

في المقابل، يقول قائل إن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي ورثت عن حكومة حسن روحاني حملا ثقيلا يتمثل بملف التفاوض النووي، إلى جانب تداعيات عقوبات ترامب. رئيسي لن يستطيع التراجع عن موضوع الحرس لأنه باختصار سيعني ضربة قاضية لمستقبله السياسي والقيادي، ولا سيما أن حكومته بدأت تواجه انتقادات من القواعد الأصولية عينها التي انتخبته قبل أشهر. يحتج البعض بأن ثمنا مناسبا قد يساهم في اقناع الإيرانيين بالتراجع عن المطالبة بإسقاط العقوبات، لكن ماذا عن تصنيف الحرس الثوري أو قوة القدس كمنظمات إرهابية؟ هذا أيضا ليس بالسهل هضمه، وحتى لو هضمته كل طبقات النظام، سيصل إلى رأس الهرم ويواجه بالفيتو، أو على الأقل لن ينال المباركة اللازمة للسير قدما، لأن القبول بتصنيف الحرس كمنظمة ارهابية، أو حتى التسوية بإزالة الحرس الثوري وإبقاء قوة القدس، سيعني تثبيت الشرعية على اغتيال أميركا للجنرال قاسم سليماني في بغداد في كانون الثاني/ يناير 2020.

رغم مرور عامين على اغتيال سليماني، إلا أنه بات أكثر حضورا على المستوى المعنوي في مؤسسات النظام، ولعل ما جرى لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وخروجه الكامل من الساحة السياسية والدبلوماسية بفعل التسريب الصوتي الذي انتقد فيه الجنرال، يعكس هذه الحساسية. مع ذلك، يمكن القول أيضا إن غياب سليماني أنهى زمن “القيادات الرموز” في المنظومة العسكرية الإيرانية، وفتح الباب أمام نوع آخر من القيادات، المؤسساتية. يطيب للبعض المقارنة هنا بين وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني عام 1989 وبين اغتيال سليماني بعدها بثلاثة عقود. فخليفة الخميني، رئيس الجمهورية حينها آية الله خامنئي، عزز الاتجاه نحو مأسسة النظام بعدما كان محكوما بالكاريزما الثورية للخميني، وهو ما ساعده في تثبيت حكمه وفي صناعة نموذج حكم يصلح أكثر مع فترة ما بعد الحرب الإيرانية العراقية وعواصف الرهائن والتحولات الدرامية في مسار الثورة. الأمر برأي هؤلاء مشابه تماما، فخليفة سليماني، اسماعيل قآاني، تماماً كخامنئي، آت من مدرسة التنفيذيين ويتبنى مدرسة تختلف كثيرا في الأسلوب عن سليماني، هو أكثر تنظيما وأقل ظهورا، وتواصله مع الجماعات التي تعمل تحت مظلة قوته منحصر في مساحات محددة، وهو بدوره يريد، بحسب ما تشير مصادر في طهران، أن ينقل هذه العقلية إلى التنظيمات والاحزاب بعنوان غير معلن هو: “نهاية زمن الاساطير”.

ترفع صورة سليماني اليوم قرب أكبر بحيرة اصطناعية في الشرق الأوسط، والتي بنيت حولها مطاعم ومتنزهات وأسواق تجارية ضخمة. المنطقة التي تقع إلى غرب العاصمة طهران يحلو للبعض تسميتها نيو طهران، أو طهران الجديدة، كل شيء فيها يثبت نظرية الثنائيات المتناقضة من طريقة اللباس المتمردة على قانون الحجاب، إلى الاستثمارات الضخمة في بلد تحت الحصار، وصولا إلى صوت نانسي عجرم وهو يصدح في مطعم لبناني على ضفاف بحيرة “شهداى خليج فارس”.


وضع تعليق

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا