ديانا محمود – طهران
وأنت تمضي في شوارع طهران القديمة قد يصادفك شارع باسم “لوطي صالح“، أو تجذبك على لائحة الطعام وجبة باسم “أرز لوطي“، أو قد تقرأ كتاباً معنونا بـ “اللوطي والنار“، قد تشاهد فیلما یحمل اسم “لوطي“، أو تسمع أغنية تحمل الاسم ذاته: “لوطي“، قد يبدو الأمر غريباً جداً لمن يتحدثون العربية، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تقترض فيها الفارسية من العربية “كلمة” وتغير دلالاتها عبر الزمن.

قرب برج ميلاد الشهير وسط العاصمة طهران، يقف رجال وهم يعتمرون قبعات متشابهة، يتحدثون بأصوات خشنة ولهجة ثقيلة، يرتدون ملابس رسمية قد تبدو عادية للوهلة الأولى، إلا أن طريقة صف شواربهم الكثيفة دون لحية وتلويحهم بسلسلة معدنية في اليد إلى جانب غليون للتدخين، مع قطعة قماش حمراء مصنوعة يدوياً توضع على الرقبة، وشال يلفّ على الخصر أحياناً، مشهد يستوقف المارة الأجانب، وقد يعتقد بعضهم أنهم يمثلون مشهداً سينمائيا، لكن اللافتة التي رفعوها قربهم يدعون فيها المارة إلى التقاط صور تذكارية معهم ومع سيارتهم القديمة. كل ذلك يمثل مقدمة لافتة للحديث عن “اللوطيين” صعاليك إيران الذين شكّلوا في القرنين الماضيين ظاهرة اجتماعية خاصة، تعرضت لتغييرات مختلفة تحت تأثير التجاذبات السياسية في إيران، إلا إنهم رسموا لأنفسهم أطراً خاصة من قيم وسلوكيات وأخلاقيات، وفي ظل عصر السرعة وتغيير طبيعة المجتمعات اندثرت هذه الفئة، تاركةً خلفها بعض الهواة الذين يرغبون بمواصلة هذه المدرسة ولو شكلياً.

صعاليك إيران .. من متمردين إلى فتوّات الحارة

في الشعر الفارسي القديم، كانت كلمة “لوطي” تحمل معناها اللغوي ذاته المعروف في العربية، لكن مع مرور الزمن أخذ الشعراء يطلقونها على كل متمرد يعيش في عزلة، بعيدا عن النظام الاجتماعي التقليدي، وبعيداً عن قيود الحكام، اسم لوطي، لاحقاً توسعت هذه الفئة الاجتماعية، لتتحول إلى مدرسة فكرية معنية بنصرة المظلومين ومساعدة الفقراء والضعفاء، ولذا تحوّل المعنى اللغوي للكلمة ليقرأ ضمن الإرث الثقافي الفارسي بطريقة منفصلة تماماً عن معناها العربي، فأصبح اللوطي بطلا ينصر الفقراء ويعيش معهم فقرهم، لكنه لا يسكت عن الظلم، ويحارب من أجلهم مضحياً بحياته. الأمر الذي يذكّرنا بشخصية عروة بن الورد (عروة الصعاليك)، وشخصية روبن هود في الفلكلور الإنجليزي، إلا أن الإيرانيين اقتبسوا من الشخصيات الدينية الإسلامية معاييرهم ومثلهم العليا، ليعيدوا ترتيب البيت الداخلي لهذه الفئة الاجتماعية لتحظى باحترام المجتمع وتأييده.

في العهد القاجاري (1796- 1925) فتحت أبواب المدن للوطيين، وبدأوا بالعودة إلى المجتمع ليصبحوا مكوناً رئيساً له، من أصفهان إلى طهران إلى مشهد إلى تبريز، كان لكل حي صعاليكه الخاصون، الذي يقدّمون له الحماية في ظروف أمنية خاصة، مقابل أن يحظوا بالاعتبار والمكانة. وهنا ربما تستحضر أذهاننا شخصية فتوة أو (قبضاي) الحارة في مسلسلات البيئة الشامية التي قدمتها الدراما السورية، كشخصية أبو صياح أو شخصية العقيد أو أبو شهاب أو غيرها من الشخصيات التي تظهر الوجه الإيجابي لهؤلاء المدافعين عن الحارة ضد المحتل، دون تسليط الضوء على البلطجة التي كانت تمارسها هذه الفئة الاجتماعية.

تصنيفات لابد منها لقبضايات إيران

يقول الباحث الاجتماعي الإيراني “علي بلوك باشي” في مقالته “ظاهرة باسم اللوطين في الحياة الاجتماعية في تاريخ إيران”: إن اللوطيين كانوا أوفياء لثلاثة أمور أساسية: الجماعة، والحي، والمدينة. وكانوا يبذلون أرواحهم دفاعاً عن هذا المثلث، وربما لا يعرف أفراد جماعة اللوطيين بعضهم، لكنهم يعتبرون أنفسهم أخوة أينما كانوا. ولهذه الجماعة تصنيفات متنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى في إيران، ومن زمن إلى آخر، فالقدماء منهم: أسياد المعارك، أشرار، فتيان، وهذه الفئة الأخيرة من الجامعة كانت محطّ احترام الجميع، ويلجأ لهم بعض الناس لحل مشاكلهم. فيما تم تقسيمهم في القرن العشرين في طهران إلى مبتدأين كُنّوا باللوز الأخضر، ثم اللوطين، ثم مخضرمي اللوطيين، وأعلى مرتبة لهم “بابا شمل”، وهو شيخ هذا الكار والحرفة، وهو الذي يأمر وينهي ويصغي له الجميع.

يجب القول هنا إن هذه التقسيمات لا تعني أن الأشرار هم أشرار فقط، بل هم يتبعون أساليب عنيفة أكثر للوصول إلى عمل الخير، والفتيان بدورهم يلجؤون إلى القوة إذا ما كان هناك ضرورة.

كان لهذه الفئة قوانينها الخاصة الصارمة في العهد القاجاري، فقد كانت ترفض أن يعمل أفرادها في مهن تقلل من هيبتهم، مثل التدليك أو حفر الآبار أو تنظيف الشوارع أو حمل البضائع، بينما يفضّلون العمل في بيع الفواكه والمأكولات المختلفة، وكان على كل لوطي أن يحمل معه دائماً سبعة أشياء أساسية: سلسلة يزدية، وكأس معدني كرماني، ومنديل حريري كاشاني، وسكين أصفهانية، وجبق من خشب الکرز (وهو أداة لتدخين الترياك المخدر)، وشال يلفّ حول الخصر والبطن بشكل (لا) وحذاء كرمانشاهي .

السياسة التي فرّقت فتوات طهران وحوّلتهم إلى بلطيجة

يرى الباحث الإيراني “حسين رضوي خراساني” في مقالته “اللوطيون ودورهم في أحداث طهران في عهد الثورة المشروطة”، أن النظم غير المكتوبة لهيكلية جماعة اللوطيين، جعلتهم مؤثرين في الحياة السياسية في العهد القاجاري، لدرجة أنهم تمتعوا بواليهم الخاص المسمى “لوطي باشي”. ومع بداية القرن العشرين انقسمت هذه الجماعة مع بقية الشارع الإيراني إلى موالين للثورة المشروطة وموالين للسلطان القاجاري، ولعبوا دورا في الاشتباكات جعل جميع الأطراف السياسية بما فيها الدينية تسعى إلى كسبهم لصالحها، وبالتالي انحراف الجماعة عن أهدافها كالشجاعة ونصرة المظلومين.

الشكل السياسي الجديد للقرن العشرين في إيران وظهور حركات التجدد الاجتماعي والتيارات السياسية المختلفة، كلها ساهمت في حرف جماعة اللوطيين الصعاليك عن قوانينهم التي كانت مقبولة إلى درجة كبيرة في السابق، كما أن ظهور دوائر الشرطة وهيكلة الدولة سحبت البساط رويداً رويداً من تحت أقدام هؤلاء الذين تزعّموا حراسة الحارات، فتحوّلوا في بعض المناطق إلى أبطال قوميّين يواجهون ظلم الشاه أو التدخل الأجنبي، وفي مناطق أخرى كانوا أداة لنظام الشاه والنفوذ الأجنبي لقمع أصحاب الفكر والمتنورين، حيث سجل التاريخ الإيراني المعاصر مشهدا مؤلما من انتصار الجهل على المعرفة، عندما قاد فتوّة والأصح بلطجي إيراني معروف باسم جعفر شعبان بلا مخ الانقلاب ضد الوطني الإيراني محمد مصدق، بتحريك من المخابرات البريطانية والأمريكية، وكرّم لاحقاً من الشاه ومن التجار المناهضين للوطني الشهير محمد مصدق.

الأدب والسينما في إيران أظهرا جوانب مختلفة من شخصية اللوطي في العصر الحديث، فكان فيلم “قيصر” للمخرج مسعود كيميايي، وقصة “داش آكل” للكاتب صادق هدايت، و”الميمون الذي مات صاحبه اللوطي” للكاتب صادق تشوبك، خیر أمثلة عن حياة اللوطيين في منتصف القرن الماضي.

أما اليوم فإن الوعي، والالتزام بالقانون وعدم الرغبة في العودة إلى الوراء، جعل طهران ترحّب بجامعة الصعاليك ضمن صورة تذكارية خلف إطار لا يخرجون منه مرة أخرى نحو الواقع.
لموقع بوابة تونس

وضع تعليق

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا