بقلم علي هاشم : شكلت المواجهة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجاك دورسي، مؤسس ورئيس مجلس إدارة تويتر، نقطة فاصلة في علاقة الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة بمنصات التواصل الإجتماعي، وبالتالي دور هذه المنصات في العملية السياسية وفِي توجيه الناس نحو الاعتراض بشكل أكثر تأثيرا.

ليست هذه المرة الأولى التي تكون فيها تويتر جزءا من عملية تغيير سياسية، أو حتى ضغط في الشارع، لكنها لم تكن جزءا من اللعبة، بل مجرد وسيلة. دفع ترامب تويتر إلى اللعب هذه المرة في الميدان السياسي الأميركي، وتحرك تويتر أجبر فايسبوك على مجاراة نظيرتها بعد تمرد بعض العاملين على رئيسهم مارك زوكربرغ.

هذه حرب أخرى من حروب ترامب، يخوضها مع المنصة الشهيرة على المنصة ذاتها، وهو مستمر في خوض معارك موازية، داخلية وخارجية من خلال سلاحه المؤلف من 280 حرفاً، والذي بدا جليا خلال الفترة الماضية، أن ترامب أهّله وسلّحه لإشعال النزاعات. هكذا أصبح تويتر مكاناً غير آمن لممارسة السياسة الخارجية، حتى و لو كان ذلك في خضم أزمة عالمية مثل تفشي فيروس كورونا.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أكد ترامب هذا المفهوم، إذ أخذ ما كان يُعرف بدبلوماسية تويتر، Twiplomacy، من مساحة حوار كما كانت إلى مساحة مواجهة كما أضحت. في هذه المقالة سنستعرض معا كيف تحولت منصة التواصل السياسي الأولى في العالم، تويتر، إلى جبهة للتهديدات والتهديدات المضادة.

في 19 فبراير أعلنت إيران رسميًّا عن أول إصابتين بفيروس كورونا في مدينة (قم) قبل يومين فقط من الانتخابات العامّة، وقد أثيرت حينها تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت المؤسسة الحاكمة في طهران تخفي الوضع الحقيقي للسماح بتنظيم سلس للانتخابات، وتأمين إقبال جيد على التصويت لمواجهة رواية أميركية ظلت مستمرة في محاولة ضرب شرعية الجمهورية الإسلامية.

في غضون بضعة أيام فقط ارتفع عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا بشكل مطرد، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأميركي مارك بومبيو إلى نشر تغريدة يتهم فيها المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي بالكذب بشأن المخاطر الصحية الداخلية في البلاد، لم يكن بومبيو حينها يدري أن الأسابيع القادمة ستضع إدارته في موضع اسوأ بكثير من الذي كانت فيه إيران.

تغريدات الوزير الأميركي جاءت بعد يوم من نشره تغريدات عارضا فيها “تقديم المساعدة للشعب الإيراني” ومعربا عن قلقه، على حد تعبيره، إزاء مخاطر انتشار فيروس كورونا في ايران و”الذي يهدد الشعب الإيراني وجيرانه”.

وفي الثالث عشر من مارس/آذار، غرد حساب المرشد الإيراني حول وجود بعض الأدلة، على حد زعمه، التي تشير إلى أن تفشي الفيروس التاجي ربما كان نتيجة “لهجوم بيولوجي”. امتنع حينها بومبيو عن اقتباس التغريدة الأصلية التي استخدمها خامنئي، بل استخدم صورة لها، في ما بدا وكأنه تحرك أميركي رقمي متعمد بهدف ايصال رسالة تتجاهل حضور الزعيم الإيراني على منصة التواصل الاجتماعي.

خلال الأسبوعين الأولين من شهر مارس/آذار، نشر بومبيو أربع تغريدات على الأقل حول إيران، وهذا جزء مما تعتبره وزارة الخارجية الأميركية أداة أساسية أخرى في استراتيجية الضغط القصوى. واغتنم كبير الدبلوماسيين الأميركيين كل فرصة في شهر فبراير/ شباط لمهاجمة إيران عبر تغريداته، فذكرها 19 مرة، بعد شهر واحد فقط من اغتيال أميركا لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرالقاسم سليماني، والذي كان أحد مؤشراته تهديد أورده الرئيس الأميركي على تويتر.

ففي الأسبوع الأخير من عام 2019 والأسبوع الأول من عام 2020، اشتد القصف المتبادل على تويتر، إلى جانب تصعيد التوتر الميداني بين الولايات المتحدة و إيران، والذي تطور لاحقا إلى مواجهة محدودة بين البلدين، ولكن مع عواقب بعيدة الأمد.

ففي الثالث من يناير/ كانون الثاني، اغتالت طائرة أميركية بدون طيار سليماني بالقرب من مطار بغداد الدولي، و جاء الهجوم بعد أيام من تغريدة لترامب جاء فيها “هذا ليس بتحذير ، هذا تهديد”.

تغريدة ترامب كانت في اعقاب اقتحام أنصار الفصائل الموالية لإيران في العراق مداخل السفارة الأميركية، وذلك بعد غارة أميركية على قاعدة للحشد الشعبي أدت إلى مقتل أكثر من 25 شخصا.

الهجوم، بحسب الولايات المتحدة، كان ردا على هجوم سابق على قاعدة أميركية أسفر عن مقتل مقاول أميركي.

مسلسل الضربات الذي انتهى باغتيال سليماني دفع بالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بالتعهد بالانتقام له بشكل قاسٍ، وهو الضابط الأرفع الذي كان يشرف على عمل الحرس الثوري وحلفاء إيران في الشرق الأوسط. وبعد تغريدة حملت وسم الانتقام القاسي، ردت إيران بقصف القاعدة الرئيسية للولايات المتحدة في العراق بالصواريخ الباليستية متسببة بدمار كبير فيها، كما أظهرت الصور لاحقا.

كان العالم منذ أشهر يرصد بقلق بالغ التصعيد المستمر بين واشنطن وطهران، لكن الواقع أن هذه كانت المرة الأولى التي يصل فيها مستوى التوتر إلى درجة الغليان، حيث بدت احتمالات اندلاع الحرب أعلى بكثير من عدمها في منطقة تشكل مصدراً لخمس نفط العالم تقريبا.

لو أن حربا كانت قد اندلعت، لكانت هذه أول حرب كبرى في العالم تشتعل وأحد عوامل وقوعها تغريدات على تويتر.

في المقابل، وبعد القصف الإيراني، عاد ترامب إلى تويتر مستبعدا وقوع الحرب ومخففا من تأثير ما قامت به إيران، فغرّد “كل شيء على مايرام”، تغريدة عنت ضمنيا أن أميركا لن تأخذ الأمور نحو تصعيد جديد وهو ما كان كافيا بالنسبة لكثر في مختلف أنحاء العالم لتنفس الصعداء لبعض الوقت.

شهدت السنوات الثلاث الماضية قيام ترامب وفريقه بتصعيد حرب التغريدات من حافة الدبلوماسية إلى هاوية المواجهة، و ذلك من خلال حملة ممنهجة مناهضة للاتفاق النووي المعلن في العام 2015. ثم جاء الإعلان عن الانسحاب من الاتفاق وشن المزيد من التهديدات ضد إيران في مسعىً من الرئيس ترامب لكبح الدور الإقليمي لإيران والسياسات التي تعتبرها الولايات المتحدة مؤذية لمصالحها ومصالح حلفائها الاستراتيجية. كما كان واضحا أن الولايات المتحدة كانت تهدف لتحويل منصة تويتر، التي تعتمد عليها طهران كقناة اتصال فعالة مع العالم الخارجي، إلى سلاح فتاك في المواجهة بين البلدين ضمن مساحة حروب السرديات الاستراتيجية، والتي تتحول الْيَوْم إلى أداة ناجعة للدول لتقديم نفسها وادانة خصومها.

ولكن وبالرغم من استراتيجية البيت الأبيض في تحويل تويتر إلى سلاح ضد إيران، ونجاح ترامب في تأمين مكاسب أساسية على جبهة الضغط على طهران، إلا أن واشنطن ارتكبت مجموعة اخطاء استراتيجية سمحت لطهران بالاستفادة منها لصالحها.

أول الأخطاء: نظرا لأن تويتر ليس وسيلة اتصال أحادية الاتجاه، أعطى الهجوم الأميركي المستمر للمؤسسة الإيرانية الحاكمة الحيز اللازم للاستجابة و تعبئة الدعم النسبي ضد الولايات المتحدة من زاوية الدفاع عن كرامة واستقلال الأمة الإيرانية، فالشعب الإيراني حساس جد اتجاه محاولات المساس بهويته و فخره، و على هذا فإن تغريدات ترامب كانت مصحوبة بالعقوبات التي تسببت بأذى شديد. لم تكن نتيجة هذاالأمر مجرد خلف مشاعر اضافية مناهضة للولايات المتحدة، بل و بخفض تأييد الإيرانيين للاتفاق النووي ومسار التطبيع مع الغرب.

ثاني الأخطاء الأميركية: لأن التغريد مساحة مفتوحة للرد والرد المضاد، أصبح لزاما على مؤسسة الحكم في إيران والتي تبنت منذ الثورة سردية استراتيجية تقدمها كرأس حرب الدفاع عّن البلاد وكرامتها وعزتها، بالتالي تزايد الهجمات الكلامية يفرض على طهران عدم الصمت، لأن الصمت على هجمات ترامب من شأنه تقويض الشرعية المعنوية للدولة بكل ما يعنيه هذا في بلد شهد في الأشهر القليلة الماضية موجات عديدة من الاحتجاجات .

وبالتالي فإن قصف ترامب التويتري لطهران لم يحقق هدفه باحتواء الايرانيين، أو بفتح كوة للقاء معهم بدون تقديم الحد الأدنى المطلوب إيرانيا وهو رفع العقوبات.

ربما بنى ترامب على التجربة السابقة مع بلدان أخرى، مثل ما حدث مع كوريا الشمالية، حيث منحته تغريدته الاستفزازية للزعيم الكوري والمعنونة “طفل الصواريخ” منحته مقابلة مع الزعيم كيم جونج أون.

زيادة مستوى الهجوم المترافق مع سياسة الضغط القصوى عبر العقوبات وغيرها من الأدوات العلنية والسرية، ونظراً للطبيعة المعقدة لبنية السلطة الإيرانية، فرض تحولاً واضحاً في النهج الذي تبنته الدبلوماسية الإيرانية منذ عام 2013. من ما يوصف ب “الهجوم اللطيف” المعتمد بالدرجة الأولى على الدبلوماسية الناعمة وتغيير الصورة النمطية، إلى الهجوم الكلاسيكي المعروف بدون أي مواربة. باختصار كانت هناك مساحة جرى اختبارها سابقا لصناعة الدبلوماسية الهادئة بين واشنطن وطهران، إلا أن تراكمات المرحلة الأخيرة فجرت هذه المساحة التي كما أسلفنا كانت تسمى بدبلوماسية تويتر. هذه الدبلوماسية نجحت سابقا في احتواء أزمات عديدة كما سيرد لاحقا.

من بين الأمثلة على ما سبق، حادثة وقعت في 13 يناير/ كانون الثاني 2016 في المياه الخليجية، حيث اوقف الحرس الثوري الإيراني سفينتين تابعتين للبحرية الأميركية بمن عليها. إلا أن الحادثة انتهت نهاية سعيدة بإطلاق سراح البحارة ال 13 المحتجزين بفصل الخطوط المفتوحة، وتجلى هذا النجاح من خلال تغريدات تمتدح ما حصل من وزيري خارجية البلدين.

فقد نشر وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري على تويتر تغريدة جاء فيه “إن الحل السلمي و الفعال لهذه القضية يشهد على الدور الحاسم الذي تلعبه الدبلوماسية في الحفاظ على أمن بلادنا وقوتها”.

وفي المقابل كتب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف “سعيد برؤية الحوار والاحترام، لا التهديدات والعنف، ينجحان بحل قضيةالبحارة بسرعة، فلنتعلم من هذا المثال الأخير”.

القرارات السلمية والفعالة، والحوار و الاحترام، أصبحوا خلفنا، وجرى استبدالهم بالرسائل القاسية التي أعادت تقديم “ظريف” بشكل آخر. من دبلوماسي صعد إلى المسرح العالمي بأجندة لتغيير الصورة النمطية لبلاده في ذهن الإدارات الأميركية السابقة باعتبارها “دولة مارقة”، إلى وزير خارجية مؤدلج، يستفيد من التأثير والوصول الذي اكتسبه على وسائل التواصل الاجتماعي في الأعوام الماضية لشن هجمات مضادة على إدارة ترامب.

قبل تنصيب الأخير رئيسا لأميركا، بل و بعد ذلك ببضعة أشهر، حرص “ظريف” على تجنب المواجهات في تويتر. حينها تصدر المرشد الأعلى الواجهة مهددا ومهاجما الولايات المتحدة في مناسبات مختلفة.

و سواء كانت هذه استراتيجية مقررة في ذلك الوقت، أم مجرد تطبيق لمبدأ تعدد الأصوات المتبع في إيران، بدا واضحاً أن ترامب كان يرغم إيران على اللعب وفقاً لقواعده هو، والتي يمكن تلخيصها بالتالي؛ دولة واحدة، سياسة واحدة.

هكذا اختفى بشكل تدريجي الخيط الرفيع الذي كان يفصل بين نهج الدولة ونهج الثورة مع تصاعد خطاب ترامب. ودُفِعَت إدارة الرئيس المعتدل حسن روحاني نحو تبني مواقف وقرارات لم تكن في ظروف أخرى لتشبهها.

وبينما كانت تسعى حكومة روحاني في السابق للتمايز وأخذ قرارات يمكنها إحداث فرق ولو كان ضئيلا، وجدت نفسها أمام كل تغريدة لترامب في موقف يأخذها أكثر نحو التصعيد. ضربة بضربة، إلى أن اغتالت أميركا سليماني، فغرّد روحاني، المعروف في إيران بشيخ الدبلوماسية، بما يلي: “

مسار مقاومة الاعتداءات الأميركية لن يتوقف. الأمة الإيرانية العظيمة سوف تثأر لهذه الجريمة الشنيعة”.

وضع تعليق

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا