دأبت إيران منذ الثورة على أن تلعب أوراقها بحنكة وذكاء كبيرين تجاه عدوها التاريخي أمريكا، الذي أسمته منذ ذلك الحين بالشيطان الأكبر. وفي كل مرة تكسب على حسابه نقطا إضافية على رقعة الشطرنج الدولية.

في الآونة الأخيرة أعلنت إيران استعدادها لإرسال شحنات من البنزين إلى حليفتها فنزويلا من أجل مساعدتها على الخروج من أزمتها المستفحلة من جراء الحصار الأمريكي الخانق، فنزويلا التي تعرف هذه الأيام شحّا كبيرا في الوقود مما جعل عجلة البلد تشرف على التوقف النهائي لولا الإسناد الإيراني لكي تتحرك.

هذا الإعلان جوبه بالتهديد والوعيد من طرف البيت الأبيض لإيران إن هي أقدمت على فعلتها هاته. فما كان من إيران إلا أن اهتبلت الفرصة، خاصة وأن روسيا لم تستجب لطلب المساعدة الرسمي الذي تقدم به الرئيس مادورو مباشرة إلى الرئيس بوتين، فكانت مناسبة مواتية لها لتراكم المزيد من إنجازاتها ضد عدوها الذي يتزعمه رئيس أهبل.

افتتحت خطوتها الأولى بإرسال السيد ظريف وزير الخارجية الإيراني شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى أن أمريكا تسعى لعرقلة شحن النفط من بلاده إلى فنزويلا واصفا تهديداتها بغير القانونية وبأنها تصنف ضمن خانة القرصنة البحرية وستشكل تهديدا على السلام والأمن الدوليين. كما أكد ظريف على أن إيران ستتخذ التدابير اللازمة ضد هذه التهديدات. ومن جهة أخرى استدعت وزارة الخارجية السفير السويسري بصفته القائم بالأعمال والراعي للمصالح الأمريكية بطهران وسلمته تحذيرا من مغبة أي تهديد أمريكي لناقلاتها النفطية.

بهذه الخطوة تكون إيران قد وضعت عمليتها هاته بإحكام في إطارها القانوني الصرف، حيث أن القانون الدولي يكفل ويضمن حرية العمليات التجارية بين الدول، كما أن فنزويلا محاصرة بقرار أمريكي أحادي وليس بموجب قرار لمجلس الأمن الدولي. وتكون بذلك أيضا قد وضعت أمريكا، في حالة الاعتداء، في وضعية غير قانونية كأنها دولة مارقة تتصرف ببلطجية خارج القوانين والأعراف الدولية، وفي هذا تأثير سلبي على سمعة “الدولة الديمقراطية الأولى” في العالم.

بعد هذا التمهيد القانوني، قامت السلطات الإيرانية بشحن خمس ناقلات ضخمة بكميات كبيرة تقدر بمليون ونصف برميل من البنزين والمشتقات النفطية وقطع الغيار لإعادة تأهيل مصافي النفط في البلد بعد ما ألحق بها الحصار ضررا بالغا. ثم أعلنت الجهات المسؤولة عن الطريق الذي ستسلكه هذه السفن في البحر نحو بلوغها هدفها على الضفة الأخرى من المحيط. وفي هذا الإعلان تأكيد على أن عمليتها التجارية هذه هي شرعية وقانونية وأنها لن تتم كأنها مهربة تحت جنح الظلام بل أنها ستتم في وضح النهار وبدون أي تعتيم أو تستر.

بعدما انطلقت أول سفينة من ميناء بندر عباس رافقتها حملة من التصريحات لكبار المسؤولين الإيرانيين شديدة وقوية النبرة، حيث رفعوا سقف التحدي عاليا أمام التهديدات الأمريكية، مما شكل حربا نفسية وضغطا معنويا على صناع القرار في واشنطن وجعلهم محشورين في الزاوية. في المقابل شكلت هذه التصريحات تعهدا والتزاما من طرف هؤلاء المسؤولين أمام شعبهم وأمام الرأي العام الدولي على أن أي مس أمريكي بسفنهم سيواجه بتدابير قاسية ومؤلمة.

وإمعانا في التحدي رسمت إيران لسفنها طريقا ملتويا يعبر كل المضائق المائية، من هرمز إلى باب المندب مرورا بقناة السويس وانتهاء بجبل طارق، وكأنها تقول بلسان الحال: “ها أنا أمُرّ على مقربة من كل الأعداء، صناديد الاستكبار، على عين البوارج الأمريكية والصهيونية والبريطانية .. فمن ثكلته أمه فليمسس سفننا”.

وبعد وصول أول سفينة يوم الأحد 24 ماي الجاري إلى المياه الدولية لفنزويلا تكون إيران قد حققت مكاسب عديدة منها :

أولا: كسر الحصار على دولة ذات سيادة استضعفتها أمريكا، وهذا ما كان ضمن شبه المستحيل في عرف الدول، سواء الصديقة منها أو العدوة للولايات المتحدة.

ثانيا: دق مسمار آخر في نعش الهيبة الأمريكية على المستوى الدولي، مما يجرئ بعض الدول للتصدي للبلطجة الأمريكية.

ثالثا: ضرب الدولار الأمريكي باعتباره العملة شبه الوحيدة لتسعير البترول عالميا، وذلك من خلال قبض إيران ثمن سلعتها بالذهب وليس بالدولار.

رابعا: تحجيم القوة الأمريكية رغم امتلاكها لترسانة كبيرة من أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات وبوارج حربية وطائرات وغيرها من الأسلحة المتطورة جدا. حيث أن إيران بفعلتها هاته، جعلت أمريكا في وضع القوي المالك لأسباب وإمكانيات القوة العاجز عن توظيفها أو استعمالها.

خامسا: التأكيد على الوجه الأخلاقي للجمهورية الإسلامية في سياستها وعلاقاتها الدولية، إذ ترمز إلى مبدئيتها من خلال وقوفها إلى جانب المستضعفين في العالم ضد المستكبرين بغض النظر عن الانتماءات الدينية أو العرقية أو المذهبية، مهما بعدت الجغرافيا ومهما كلف الثمن.

بعد هذا الجرد لبعض المكاسب التي حققتها إيران من خلال عمليتها هذه يبقى التساؤل المطروح الذي ستجيبنا عليه الأيام والشهور المقبلة، هو هل سيكون كسر الحصار الإيراني على فنزويلا مقدمة وبداية لينتهي برفع الحصار عن شعبنا الفلسطيني في غزة؟ كما صرح بذلك أحد الديبلوماسيين الإيرانيين السابقين.

عبد الإله باحي

وضع تعليق

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا